قال فضيلة الشيخ عبد المالك بن أحمد رمضاني حفظه الله :
إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ... أما بعد :
فقد منَّ الله تعالى على أمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم
بإكمال دينها ، وإتمام نعمته عليها
ورضاه عنها بالإسلام الذي لا يقبل منها دينًا سواه
قال الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينًا ) ...
قال ابن القيم رحمه الله :
(فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد ، وهي نعمة الإسلام والسنة)
ثم قال – بعد ذكر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين - :
( فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة
وأصحابها أيضَا هم المعنيّون بقول الله تعالى : ( اليوم أكملت لكم ... )
قال أبو العالية رحمه الله :
( قرأت المحكم بعد وفاة نبيكم صلى الله عليه وسلم بعشر سنين
فقد أنعم الله عليّ بنعمتين ، لا أدري أيهما أفضل :
أن هداني للإسلام ، ولم يجعلني حروريًّا )
يريد نعمة الهداية إلى الإسلام من بين الملل الكافرة
ونعمة الهداية إلى السنة من بين الطوائف المبتدعة
وكانت بدعة الخوارج الحروريين
أشدها خطفًا للقلوب وترويعًا للمسلمين ! والله العاصم
ـــــــــ
...أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( ليس من عمل يقرّب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به
ولا عمل يقرّب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه ... ) ...
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لنا الهدى وحثّنا عليه
وبين لنا الضلال وحذّرنا منه
لم يبق لأحد عذر في الطمع في غير هذه الشريعة الكاملة
قال ابن القيم رحمه الله :
( وأما الرضا بنبيه رسولاً : فيتضمن كمال الانقياد له ...
وأما الرضا بدينه : فإذا قال أو حكم ... سلم له تسليمًا
ولو كان مخالفًا لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده و شيخه وطائفته ) ...
ثم اعلم أيها القاريء أن الذي دفعني إلى هذه الكتابة ...
صون العمل السياسي عن العبث
الذي هو أحد أسباب هذا الواقع المشئوم ...
ثم تنقّلت بضرب المثل بتجربة الجزائر ، زيادة في البيان
وإمعانًا في الإعذار لذوي البصائر
... وقبل الخوض في الموضوع ، إليك تنبيهات سريعة
على أصول مهمة ، لا أستقصي بحثها وجمع أدلتها
وإنّما هي لفت انتباه وتذكير
ــــــــــ
الأصل الأول :
الطريق واحد
اعلم رحمك الله أن الطريق الذي يضمن لك نعمة الإسلام واحد لا يتعدد
لأن الله كتب الفلاح لحزب واحد ...
وكتب الغلبة لهذا الحزب وحده فقال :
( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )
ومهما بحثت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
فلن تجد تفريق الأمة إلى جماعات وتحزيبها في تكتلات إلا مذمومًا
قال الله تعالى : ( ولا تكونوا من المشركين
من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون )
ــــــــــ
... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال :
( ألا أن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة ...)
قال الأمير الصنعاني رحمه الله :
( ليس ذكر العدد في الحديث لبيان كثرة الهالكين
وإنما هو لبيان اتّساع طرق الضلال وشعبها ، ووحدة طريق الحق
نظير ذلك ما ذكره أئمة التفسير في قوله :
( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) ...
أنه جمع السُّبل المنهي عن اتّباعها
لبيان تشعب طرق الضلال وكثرتها وسعتها
وأفراد سبيل الهدى والحق لوحدته وعدم تعدّده )
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال :
( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا ثم قال : هذا سبيل الله
ثم خطّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله ... )
فدل هذا الحديث بنصه على أن الطريق واحد ...
ولكن كثرة بُنياته العاديات تشكك فيه وتُخذل عنه
وإنّما انحرف عنه من انحرف من الفرق استئناسًا بالتعدّد
وتوحشًا من التفرّد ، واستعجالاً للوصول ، وجُبنًا عن تحمل الطول
قال ابن القيم : ( من استطال الطريق ضعف مشيه ) والله المستعان
ــــــــــ
الأصل الثاني :
اتباع الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح
إن الذي لم يختلف فيه المسلمون قديمًا وحديثًا
هو أنّ الطريق الذي ارتضاه لنا ربنا هو طريق الكتاب والسنة ...
لكن الذي جعل الفرق الإسلامية تنحرف عن الصراط
هو إغفالها ركنًا ثالثًا جاء التنويه به في الوحيين جميعًا
ألا وهو فهم السلف الصالح للكتاب والسنة
وقد اشتملت سورة الفاتحة على هذه الأركان الثلاثة في أكمل بيان :
فقوله تعالى :
( اهدنا الصراط المستقيم )
اشتمل على ركنَي الكتاب والسنة ...
وقوله : ( صراط الذين أنعمت عليهم )
اشتمل على فهم السلف لهذا الصراط
مع أنه لا يشك أحدٌ في أنّ من التزم بالكتاب والسنة
فقد اهتدى إلى الصراط المستقيم
إلا أنه لما كان فهم الناس للكتاب والسنة منه الصحيح ومنه السقيم
اقتضى الأمر ركنًا ثالثًا لرفع الخلاف
ألا وهو تقييد فهم الأخلاف بفهم الأسلاف ...
ـــــــــ
قول الله تعالى :
( ومن يُشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى
ويتبع غير سبيل المؤمنين
نوله ما تولّى ونصله جهنم وساءت مصيرًا )
والشاهد هنا في ضمِّ مجانبة سبيل المؤمنين إلى مشاقّة الرسول
لاستحقاق هذا الوعيد الشديد
مع أنّ مشاقة الرسول صلى الله عليه وسلم وحده كفيلة بذلك ...
ــــــــــ
... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال :
( ...ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة ، وهي الجماعة ) ...
والشاهد هنا في وصف الفرقة الناجية بالجماعة
والعدول عن إضافتها إلى الكتاب والسنة
مع أنّها لا يمكن أن تخرج عنهما قط
والسر في ذلك يكمن في التنبيه
على الجماعة التي فهمت نصوص الوحيين
وعملت بهما على مراد الله ورسوله
ولم يكن يومئذ جماعة إلا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولذلك صحح أهل العلم – في الشواهد – اللفظ الآخر الوارد في هذا
الحديث من رواية الحاكم وغيره وهو قوله صلى الله عليه وسلم
في وصف الفرقة الناجية : ( ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) ...
ــــــــ
قال الآجري رحمه الله : بلغني عن المهتدي رحمه الله تعالى أنه قال :
ما قطع أبي – يعني الواثق – إلا شيخ جيء به من المصيصة ...
فأقبل الشيخ على ابن أبي دُؤاد يسأله فقال :
أخبرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه
أشيء دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : لا !
قال : فشيء دعا إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعده ؟
قال : لا !
... قال الشيخ :
فشيء لمْ يدعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر
ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي رضي الله تعالى عنهم
تدعو أنت الناس إليه ؟!
ليس يخلو أن تقول : علِموه أو جهلوه
فإن قلت علِموه وسكتوا عنه
وسعنا وإياك ما وسع القوم من السكوت
فإن قلت : جهلوه وعلمتُه أنا . فيا لكيع بن لكيع !
يجهل النبي صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم شيئًا
وتعلمه أنت وأصحابك ؟!
قال المهتدي : فرأيت أبي وثب قائمًا ودخل الحيرى
وجعل ثوبه في فيه يضحك
ثم جعل يقول : صَدق ، ليس يخلو من أن نقول : جهلوه أو علموه ...
وفي رواية أوردها الذهبي في السير :
( ... وسقط من عينه ابن أبي دُاؤد ، ولم يمتحن بعدها أحدًا ) ...
ـــــــــ
قلت : تأمل !
فإن ردّ الشيخ هذا الأمر العظيم إلى سيرة السلف الصالح
رفع الخلاف مباشرة
وكان سبب هداية الواثق والمهتدي إلى ما جاء ذكره في القصة
فهذا يدلك على أنه تأصيل دقيق ، فاحفظه
ولذلك لا يزال أهل العلم يردّدون كلمة إمام الهجرة
مالك بن أنس رحمه الله :
( لا يُصلح آخر هذا الأمر إلاّ ما أصلح أوّله )
ــــــــ
تنبيه :
إذا اختلف سلفنا الصالح في مسألة ما
كان تحكيم الدليل من الكتاب والسنة هو المسلك الوحيد
لقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول
إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً )
وكلمة " شيء " هنا نكرة في سياق الشرط
فتعم كل اختلاف التضاد في الأصول والفروع
كما أشار إليه العلامة محمد الأمين الشنقيطي
وقال ابن القيم :
( ولو لم يكن في كتاب الله وسنة رسوله بيان حكم ما تنزعوا فيه
ولم يكن كافيًا
لم يأمر بالرّدِّ إليه
إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النّزاع
إلى من لا يوجد عنده فصلُ النّزاع )
الأصل الثالث :
نيل السؤدد بالعلم
هذا الفصل من أنفس ما في هذه الأصول الستة
لأن الغرض منه هو تبيان أصل العمل الذي ينبغي أن تُكرَّس له الجهود
فإن قوما رأوا النشاط الرهيب الذي تجتهد فيه قُوى الكفر والضلال
فظنوا أن سيادتهم ترجع إليهم بمجرد مقابلة نشاطهم بنشاط أقوى منه
فوَجَّهوا كل ما يملكون من وسائل لمجاراتهم
وأهملوا العلم الشرعي إهمالاً فاحشاً!
والحقيقة أنهم مهما أحكموا التنظيم ... فلن يُكتَب لهم سؤدد ولا رِفعة
حتى يُؤَسِّسوا عملهم على العلم ويعرفوا له ولأهله قدره
قال الله تعالى: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ}
وقال: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشَاءُ}
قال مالك رحمه الله : ( بالعلم )...
... قال عمر: أمَا إن نبيّكم صلى الله عليه وسلم قال:
( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين )
ولذلك أخبر الله عزّ وجلّ أنه رفع الربانيين من بني إسرائيل
حتى جعلهم حكّاماً عليهم ينفِّذون فيهم أمر الله ...
وهؤلاء الربانيون الممَكَّن لهم جاء وصفهم بالعلم والتعليم
قال الله تعالى:
{... وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّـينَ بِما كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون}
وفي كتاب الله عزّ وجلّ آيتان تشابهتا في اللفظ
يقول الله في الأولى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم :
{وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْنَاها إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ
نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}
وفي الثانية يقول عن يوسف صلى الله عليه وسلم :
{نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}
وفي هذا سرٌّ بديعٌ من أسرار الكتاب العزيز
ذكره ابن تيمية في كلام نفيسٍ جدًّا، حيث يقول:
( ذَكَر اللهُ أنه يرفع درجات من يشاء
في قصة مناظرة إبراهيم وفي قصة احتيال يوسف
ولهذا قال السلف: بالعلم؛ فإن سياق الآيات يدلّ عليه
فقصة إبراهيم في العلم بالحجة والمناظرة لدفع ضرر الخصم عن الدين
وقصة يوسف في العلم بالسياسة والتدبير لتحصل منفعة المطلوب
فالأول: علم بما يدفع المضار في الدين
والثاني: علم بما يجلب المنافع.
...ولهذا كان المقصِّرون عن علم الحجج والدلالات
وعلم السياسة والأمارات مقهورين مع هذين الصنفين ... )
فدار أمر الرئاسة الدينية والدنيوية على العلم؛ لأنه أصل لهما
ولذلك قال ابن تيمية أيضا:
( وذلك أن الله يقول في كتابه:
{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وأَنزَلْنَا مَعَهمُ الكِتابَ والمِيزانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ وأَنزَلْنَا الحَدِيدَ ...}
... فقوام الدين بالكتاب الهادي والسيف الناصر ...
والكتابُ هو الأصلُ
ولهذا أول ما بعَث اللهُ رسولَه أنزل عليه الكتاب
ومكث بمكة لم يأمره بالسيف حتى هاجر وصار له أعوانٌ على الجهاد )
إذن فالذين يتصوّرون قيام دولة الإسلام بمجرد عاطفةٍ إسلامية
وفكرٍ مجـرّد عن حـجّـة الشـرع يسمّونـه " فكـراً إسلاميًّا " !
ونتفٍ من العلم يسمونها " ثقافةً إسلاميةً " !
وأن التعليم مرحلة قادمة بعدها، فهؤلاء طالبوا سراب ...
ولهذا قال ابن القيم:
( ...كان جهادُ النَّفْس مُقَدَّماً على جهاد العدوّ في الخارج وأصلاً له
فإنه مَن لم يجاهد نفسَه أولاً لتفعل ما أُمِرَت به
وتترك ما نُهيَت عنه ويحارِبْها في الله
لم يمْكِنْهُ جهادُ عدوِّه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوِّه
والانتصاف منه، وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له ...
فهذان عدوّان قد امتُحِن العبدُ بجهادهما
وبينهما عدوٌّ ثالثٌ، لا يمكنه جهادهما إلا بجهاده
وهو واقفٌ بينهما يُثبِّطُ العبدَ عن جهادهما ويُخذِّلُه ويُرجِف به
ولا يزال يخيِّل له ما في جهادهما من المشاقِّ وترك الحظوظ
وفَوْت اللذات والمشتهيات ...
فكان جهاده هو الأصل لجهادهما، وهو الشيطان ... )
... أي لا ينهزم المسلمون لقوّة عدوّهم ولكن لضعف إيمانهم
حتى ولو عَرِيَت أيديهم من الأسباب ـ بعد بذل الوسع ـ
كفاهم الله ما نابهم
قال ابن تيمية رحمه الله :
( ومن سنة الله
أن من لم يُمْكن المؤمنون أن يعيذوه من الذين يؤذون الله ورسوله
فإن الله سبحانه ينتقم منه لرسوله ويكفيه إياه ...
كما قال سبحانه: {فاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِين.
إنَّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِين} )
وقال ابن القيم:
( تالله ! ما عَدَا عليك العدوُّ إلا بعد أن تَوَلَّى عنك الوَلِيُّ
فلا تظنّ أن الشيطان غَلَبَ ولكن الحافظ أَعْرَض )
وقد عرفتَ أنك تُحْرَم ولاءَ ربك
إذا تركتَ المأمور وركبتَ المحظور
كما أنك منصور بحفظك اللهَ في أمره ونهيه
فعاد الأصل إلى العلم؛ لأنه لا يُعرَف الأمر والنهي إلا به.
عن الزبير بن عدي قال: دخلنا على أنس بن مالك قال:
فشكونا إليه ما نَلقى من الحَجَّاج، فقال:
(ما مِن عامٍ إلاَّ والَّذي بعده شرٌّ منه حتى تَلْقَوْا ربَّكم )
سمعتُ هذا من نبيّكم.
قال ابن حجر:
(وقد استُشكل هذا الإطلاق
مع أن بعض الأزمنة تكون في الشرّ دون التي قبلها
ولو لم يكن في ذلك إلا زمن عمر بن عبد العزيز
وهو بعد زمن الحجاج بيسير
وقد اشتهر الخير الذي كان في زمن عمر بن عبد العزيز ...
وأجاب بعضهم أن المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر
على مجموع العصر
فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء
وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا
والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده
لقوله صلى الله عليه وسلم : ( خير القرون قرني ... ) ...
ثم قال:
( ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد وهو أولى بالاتباع ...
يقول: ( لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شرّ من اليوم الذي قبله
حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه ولا مالاً يفيده
ولكن لا يأتي عليكم يوم إلا وهو أقلّ علماً من اليوم الذي مضى قبله
فإذا ذهب العلماء استوى الناس
فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون )
ومن طريق... : ( لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شرّ مما كان قبله
أمَا إني لا أعني أميراً خيراً من أمير
ولا عاماً خيراً من عام
ولكن علماؤكم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاء
ويجيء قوم يُفتون برأيهم )
قلت:
رفعُ الإشكال بالأثر هو قرة عيون أهل الأثر
خاصة وهو جارٍ على الأصول
لأن غالب الخلق لِرَحم المال والسلطان وَصول
ألم تسمع الله تعالى يخبر عن أهل الشمال حسرتهم قائلين:
{ما أَغْنَى عَنِّي مالِيَه. هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَه}.
ولو تأمَّلتَ فتنةَ الحركات الإسلامية - فضلاً عن غيرها –
لوجدتَها مجموعة في هاتين النعرتين:
تصوُّرُ أن خيريَّة أمة على أخرى تابعة لخيريَّة حكّامها
أو وفرة اقتصادها
ألا ترى أن أكثرهم لا يرُدّون من عرش الملك يَدَ لامِس
ولو كانت طَماعة من ديمقراطية الوساوس!
وآخرين يرون أن عودة عزّ المسلمين مرهونة بالتفوق الحضاري
ولذلك لا يبْرَحون عليه عاكفين!
وهذا يبيِّن لك سرّ عناية ابن مسعود بمعالجتهما دون غيرهما
وتالله إنه لفقه النفس الذي فتح الله به عليه
فلْتعرف ـ أخا الإسلام ـ للسلف فضلهم
واستمسك بغرزهم تسترح من شبهات بُنَيّات الطريق
وأخيراً: إلى العلم! يا من ينشد عز الإسلام ...
وعن الحسن قال: ( كانوا يقولون:
موت العالم ثُلْمة في الإسلام لا يَسُدُّها شيء ما اختلف الليل والنهار )
وعن هلال بن خباب قال: سألت سعيد بن جبير قلت:
يا أبا عبد الله! ما علامة هلاك الناس؟
قال: ( إذا هلك علماؤهم )
ــــــــــ
الأصل الرابع :
صمام الأمان من الكفر والهزيمة
باتباع الكتاب والسنة
... كلمة إلى أولئك الذين لم يقنعوا بدعوة الكتاب والسنة ...
إذ تصوَّروا ضعف أثرهما في النفوس
وأن دعوة المسجد قاصرة عن بعث الأمة إلا ببطء
لا يكافيء النشاط الرهيب والمتنوّع الوسائل
الذي يقوم به الشيوعيون واليهود والنصارى ...
وهذه الدعوى ـ إن كان فيها حق ـ فيكفي أصحابها إثما
أن صرفوا وجوه النشء عن العكوف على الوحيين
حفظا وتعلُّما وتعليما ...
ألا تعلمون أن الكفار لا يقدرون عليكم ما دمتم تتلُون الوحيين؟
قال الله تعالى: {يأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كافِرِينَ.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتلَى علَيْكُمْ آياتُ اللهِ وفِيكُمْ رَسُولُهُ
ومَن يَعْتَصِم ِباللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}
وفي هذا السياق الكريم فائدتان هما:
الأولى: عصمة أتباع الوحيين من الكفر...
والثانية: أن الله تعالى اقتصر على ذكر
أعظم كيد يدبِّره الكفار للمسلمين وهو إرادة تكفيرهم ...
فكأن الله يقول: مهما كان مكرهم ...
فإن إيمانكم لا يزول ما أقمتم على تلاوة الوحي كتابا وسنة
... وبهذا يَدِقّ فهمك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :
( تركتُ فيكم شيئين لن تَضلّوا بعدهما:
كتابَ الله وسنتي، ولن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليّ الحوض )...
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه :
( لستُ تاركا شيئا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعمل به إلا عملتُ به
فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ )
فهذا صدِّيق الأمة يخشى على نفسه الانحراف عن الصراط المستقيم
إن هو فرَّط في شيء من هدي النبي ...
فكيف قرَّت أعْيُن المبتدعة وهدأت جفونهم ...
ولما كان الرسل عليهم الصلاة والسلام أتبع الخلق للوحي
اقترن بهم مِن تأييد الله أكمله
كما قال الله تعالى: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ...
ومن كان لهم متَّبِعاً كان له مِثْلُ ما لهم من التأييد والنصرة ...
قال ابن تيمية :
( ... قال الله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَك مِنَ المُؤْمِنِينَ}
أي حسْبك وحسْبُ مَن اتَّبعك
فكلُّ مَن اتَّبَع الرسولَ مِن جميع المؤمنين فالله حسْبه
وهذا معنى كون الله معه ...
والأصل في هذا القلب
كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
( إنّ بالمدينة رجالاً ما سِرْتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلاَّ كانوا معكم)
قالوا: وهم بالمدينة؟
قال: ( وهم بالمدينة، حبَسهم العذرُ )
فهؤلاء بقلوبهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغزاة
فلهم معنى صُحبته في الغزاة
فالله معهم بحسَب تلك الصحبة المعنوية )
... وعن ابن مسعود قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ثم انصرف
فأخذ بيد عبد الله بن مسعود حتى خرج به إلى بطحاءِ مكةَ
فأجلسه ثم خَطَّ عليه خطاًّ ثم قال:
( لا تَبْرَحَنَّ خطك فإنه سينتهي إليك رجالٌ
فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك )
قال: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد
فبينا أنا جالس في خطي إذ أتاني رجال كأنهم الزُّطُّ
أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورة ولا أرى قشرا
وينتهون إليّ لا يجاوزون الخط ... )
فأنت ترى في هذه القصة العظيمة
أن استجابة ابن مسعود لرسول الله صلى الله عليه وسلم
حين أمره بلزوم مكانه دفعت عنه شر قوم جاءوه في أبشع صورة
مع أنه لم يكن بينه وبينهم سوى خطّ
لو جاءت عليه الريح لعفى أثره
لكنه ليس كبقية الخطوط، إنه خط السنة
من لزمه كفاه الله ما نابه.
وإذ قد بيَّنتُ أدلة تثبيت الله لأمة المتابعة ونصره إياها
فلا بأس أن أسوق هنا قصة تشهد للأمرين جميعا
وفيها منقبة عظيمة لأبي بكر
الذي حفظ الله به الدين ونصره
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى قال أبو هريرةرضي الله عنه:
( والله الذي لا إله إلا هو لولا أبو بكر استُخلف ما عُبد الله )
ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أباهريرة !
فقال: ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَجَّه أسامة بن زيد
في سبعمائة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قُبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب حول المدينة
فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا أبا بكر! رُدَّ هؤلاء
تُوجِّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدَّت العرب حول المدينة؟!
فقال: ( والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب
بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما رددتُ جيشا وجَّهه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا حلَلْتُ لواء عَقَده رسولُ الله )
فوجَّه أسامة، فجعل لا يمرّ بقبيلٍ يريدون الارتداد إلا قالوا:
لولا أنَّ لهؤلاء قوة ما خرج مِثل هؤلاء من عندهم
ولكن ندَعهم حتى يَلقوا الروم
فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين
فثبتوا على الإسلام )
هذا هو تمسك أبي بكر بالسنة على الرغم
من فاجعة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفاقرة ارتداد العرب
أضف إليهما تثبيط الناس له انطلاقا من العقل الذي يقضي بما قضوا به
ولكن الشرع الذي تعلَّمه أبو بكر من النبي صلى الله عليه وسلم
هو الذي هداه إلى ما شحَّت به قرائحُهم
ألا وهو
خوفُه رضي الله عنه من تأخير ما قدَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فكانت عاقبة التمسك بالسنة الانتصار على العدو والثبات على الإسلام.
تنبيه :
... قرر العلماء أن المؤمنين المستضعفين اليوم في مجتمعاتهم
الذين لا يؤمرون بالقتال
هم منتصرون بالحجة العلمية التي تدمغ كل باطل وجدال
وأما الذين لهم القوة والسلطان فيؤمرون به لتتأيَّد الحجة بالسنان
وعلى هذا فالحجة العلمية غالبة في كل زمان، والحمد لله على هذا
ولما كان أهل الحديث أقوى الناس حجة
لأنهم أعلمهم بالقرآن كما قال عمر بن الخطاب:
(إن ناسا يجادلونكم بشُبَه القرآن، فخذوهم بالسنن
فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عزّ وجل )
ولما كانوا أعلمهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم
كانوا أتبعهم للكتاب والسنة
فلا يستغرِبنّ خلفيّ أن تجتمع كلمة أهل العلم
على تفسير الطائفة المنصورة بأهل الحديث
في قوله صلى الله عليه وسلم :
( من يُرِد الله به خيرا يفقِّهه في الدين ...
ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ... )
مع أنه لا يخفى على الحصيف ارتباط الجملة الأولى
ـ التي هي الفقه في الدين ـ
بالأخرى ـ التي هي انتصار هذه الطائفة ـ
وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم
ــــــــــ
تهديد مخالف الرسول بالزيغ أو الكفر
ما دام قد كتب الله لأتباع نبيّه صلى الله عليه وسلم
الثبات على الدين
فقد جعل مخالفيه على خطر من دينهم فقال:
{وإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلى مَا أَنزَلَ اللهُ وَإِلى الرَّسُولِ
رَأَيْتَ المُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً.
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ
ثُمَّ جَاُءوكَ يَحْلِفُونَ باللهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}...
وثالثة الأثافي أن هذه المصيبة قد تصيب من دين المرء مقتلا حتى يكفر
قال ابن تيمية عند قول الله عزّ وجلّ:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
: ( أمر مَن خالف أَمْرَه أن يحْذَر الفتنة، والفتنة: الرِّدة والكفر ... )
قال الإمام أحمد ... :
( ... وما الفتنة؟
الشرك . لعله إذا رَدَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ
فيزيغ قلبُه
فيهلكه ) ...
ومن الكلمات السائرة عند السلف قولهم:
(أسرع الناس رِدَّة أصحابُ الأهواء )
... قول الرسول صلى الله عليه وسلم
( دعوني ما تركتكم
فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ... ) ...
فقوله : ( بكثرة سؤالهم ) . في الإفراط والغلو
وقوله: ( واختلافهم على أنبيائهم ) . في التفريط والتقصير )
... ولما كانت المتابعة بهذه الدقة ...
أي هي متابعة ظاهرة وباطنة
ومن كان كذلك فأخذ منه الشيطان نصيبا من الطاعة
أسرع الأَوْبة ونفعته التوبة
... فتأمَّل إخبار الله عن حفظ قلوبهم من الزيغ
بسبب صدقهم في المتابعة في وقت العسرة
قال الله عزّ وجلّ:
{لَقَد تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيَّ وَالمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في سَاعَةِ العُسْرَةِ
مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ}
فلْيحذر الذين هم على ظاهر السنة دون باطنها، وكذا العكس.
ــــــــــ
تعجيل الهزيمة لمخالفي الرسل
كما أنّ أتباع الرسل منصورون
فإنّ مخالفيهم مخذولون
قال الله تعالى: {إنّ الَّذينَ يُحَادُّونَ اللهََ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ في الأَذَلِّين}
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( ... وجُعل الذّل والصغار على من خالف أمري )
... أنّ أعظم أسباب الهزيمة هو التنازع
وأشده ـ ولا شك ـ التنازع في الدين
ولما كان التنازع ناشئاً عن التقصير في طاعة الله ورسوله
قرن الله بينهما في آية واحدة
فقال: {وأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}
... ولما كان الالتزام بالسنة هو سفينة النجاة في بحر الاختلاف
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومها عند وقوعه
فقال: ( ... وإنّه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاكثيرا
فعليكم بسنّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين
تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور )
وقال الله تعالى: {وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَات}
أي جاءهم من الوحي مايجمعهم، فلما تركوه اختلفوا
وهذا مبيَّن في سيرة اليهود والنصارى مع رسلهم
فالنصارى اتَّبعوا رهبانية ابتدعوها وتركوا بعض ما أُمروا به
فأَغْرَى الله بينهم العداوة والبغضاء
كما قال تعالى: {ومِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ
فَنَسُوا حَظاًّ مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ} ...
وكذلك اليهود تركوا بعض ما أُمروا به ...
لكن تركهم له كان ناشئاً عن تقصيرهم المعروف بسبب كراهيتهم لما أنزل الله
كما قال تعالى: {ولَيَزيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْرا
وأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}
... ومن الدرر الغوالي لأبي المظفر السمعاني قوله:
( ومما يدلُّ على أن أهل الحديث هم على الحقّ
أنك لو طالعتَ جميع كتبهم المصنَّفة من أوّلهم إلى آخرهم قديمهم وحديثهم
... وجدتَهم في بيان الاعتقاد على وتيرةٍ واحدةٍ ...
وأما إذا نظرتَ إلى أهل الأهواء والبدع رأيتَهم متفرِّقين مختلفين أو شِيَعاً وأحزاباً
لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقةٍ واحدةٍ في الاعتقاد
يبَدِّع بعضهم بعضاً، بل يَرْتَقُون إلى التكفير؛ يكفِّر الابنُ أباه
والرجلُ أخاه، والجارُ جارَه، تراهم أبداً في تنازعٍ وتباغضٍ واختلافٍ
تنقضي أعمارُهم ولم تَتَّفق كلماتُهم
{تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ} )
والغرض من هذا كله
بيان لحوق الهزيمة بمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم
وتعجيلها لهم، بسبب الاختلاف المضروب عليهم ...
... قالوا: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السهمي
وهو أحد الستة، إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتابا
قال عبد الله: فدفعتُ إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أخذه فمزَّقه
فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( اللهم مزِّق ملكه ) ...
ومن حسن الموافقة أن قاتل كسرى ابنُه
كما ذكر ذلك الحافظ في " الفتح "
وهو من تمام الإعجاز في إلقاء العداوة بين أفراد الأمة الواحدة
كيف وهي عداوة أهل بيت واحد؟!
تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ}
وقارن قصة كسرى هذه بقصة قيصر ...
قال ابن تيمية: ( وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم
إلى كسرى وقيصر، وكلاهما لم يُسْلم
لكن قيصر أكرمَ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأكرم رسوله
فثبَت ملكُه ... )
وقال ... :
( ونظير هذا ما حدّثَناه أعداد من المسلمين العدول أهل الفقه والخبرة
عما جرَّبوه مرات متعددة في حصر الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية
لما حصَر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا
قالوا: كنا نحن نحصر الحصن أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنع علينا حتى نكاد نيأس
إذ تعرَّض أهله لسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والوقيعة في عرضه
فعجلنا فتحه وتيسر
ولم يكد يتأخر إلا يوما أو يومين أو نحو ذلك، ثم يفتح المكان عنوة
ويكون فيهم ملحمة عظيمة
قالوا حتى إن كنّا لنتباشر بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه
مع امتلاء القلوب غيظا عليهم بما قالوه فيه ... )
الأصل الخامس :
الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
... بعض ضعفاء النفوس وقليلي العلم تضيق صدورهم عند مطالعة الردود
ظنًّا منهم أن ذلك أقرب إلى الورع وصيانة أعراض المسلمين
وإطلالة سريعة على تاريخ العلماء تُنبيك على أنه
لم يَخلُ عصر من العصور من الردِّ على المخالف ولو كان من خيرة المسلمين
ولمّا كان جلّ الأحزاب الإسلامية يعمل على وَأْد ما يسمّى" بالنقد الذاتي "
وإجهاض الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وإخلاء أعظم ثغور المسلمين من مرابط
بحجّة السّتر على المسلمين تارة، وجمع الكيد للكافرين تارة أخرى
وغيرها من الحجج العاطفيّة التي تجعل العقول تتخطف من أصحابها في زمن الوهن العلمي
كان لابدّ من ردّ الحق إلى نصابه
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} ...
والنبيّ صلى الله عليه وسلم
يخبر بافتراق هذه الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة
والنجاة منها لفرقة واحدة على منهاج النبوة
أيريد هؤلاء اختصار الأمّة إلى فرقة وجماعة واحدة مع قيام التمايز العقدي المضطرب؟!
أم أنها دعوة إلى وحدة تصدِّع كلمة التّوحيد ؟!
فاحذروا !
وما حجتهم إلا المقولات الباطلة :
لاتصدِّعوا الصفّ من الدّاخل ! ...
( نلتقي فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) وهكذا...
ونُعيذ بالله كل مسلم من تسرّب حجّة اليهود
فهم مختلفون على الكتاب، مخالفون للكتاب
ومع هذا يظهرون الوحدة والاجتماع
وقد كذّبهم الله تعالى فقال سبحانه : {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ...
وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله :{كانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} ...
( ولهذا فإذا رأيت من ردّ على مخالف في شذوذ فقهي أو قول بدعي
فاشكر له دفاعه بقدر ما وَسِعه
ولا تخذِّله بتلك المقولة المهينة ( لماذا لا يردّ على العلمانيّين؟! )
فالناس قدرات ومواهب، وردّ الباطل واجب مهما كانت رتبته
وكل مسلم على ثغر من ثغور ملّته ) ...
قال ابن تيمية في هذا المعنى:
(... فإنّ القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات
لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء
وهم يسعون في الأرض فسادا ويصدُّون عن سبيل الله ) ...
وفي الردّ على المخالف دفاع عن الإسلام من جبهتين:
الأولى: الخطر الخارجيّ وهو الكافر المتمحِّض ...
الثانية: مواجهة التّصدُّع الدّاخليّ في الأمة
بفشُوِّ فِرق ونحل طاف طائفها في أفئدة شباب الأمّة ...
إذ التّصدُّع الدّاخلي تحت لباس الدين يمثِّل انكسارا في رأس المال : المسلمين
وقد كان للسالكين في ضوء الكتاب والسنة ـ الطّائفة المنصورة ـ
الحظ الوافر والمقام العظيم في جبر كسر المسلمين بردهم إلى الكتاب والسنة ...
ومن ضنائن العلم ما قرأته لابن تيمية في التّمييز بين معاملة الخوارج ومعاملة الكفار ...
قال رحمه الله :
( ... رُوِيَ من أنهم ( شرّ قتلى تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه )
... فإنّهم كانوا مجتهدين في قتل كل مسلم لم يوافقهم
مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم
مكفِّرين لهم
وكانوا متديّنين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلّة ...) ...
ـــــــــ
لماذا عُنِيَت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بالرد على الفرق المنحرفة ـ كالطرق الصوفية ـ
أكثر من عنايتها بالرد على الإلحاد
مع وجود الاستعمار الفرنسي؟
هذه شبهة تَرِد كثيرا على لسان من لم يتضلَّع بمنهج السلف
يجيب عنها الشيخ محمد البشير الإبرهيمي رحمه الله بقوله:
( وإنك لا تُبْعِد إذا قلت: إن لفشوِّ الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة
أثرا كبيرا في فشوّ الإلحاد بين أبنائها ...
لأنهم يحملون من الصغر فكرة أن هذه الأضاليل الطرقية هي الدين
وأن أهلها هم حملة الدين
فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل
فأنكروها حقا وعدلاً
وأنكروا معها الدين ظلمًا وجهلاً
وهذه إحدى جنايات الطرقية على الدين
أرأيت أن القضاء على الطرقية قضاء على الإلحاد في بعض معانيه وحسم لبعض أسبابه ... ) ...
ولذلك قال ابن تيمية :
( ... فلا بد من التحذير من تلك البدع
وإن اقتضى ذلك ذِكْرُهم وتعيينُهم
بل ولو لم يكن قد تَلَقَّوْا تلك البدعة عن منافق
لكن قالوها ظانِّين أنها هدى ، وأنها خير ، وأنها دين
ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالهم )
وأما مواجهتهم من الخارج
فلأن العدو لا يدخل عليك بيتك إلا إذا كانت منافذه مفتوحة أو ضعيفة
والفرق الإسلامية المنحرفة عن الناجية هم منافذ الكفار
وهل يجهل المسلمون أثر المتصوفة في استعمار البلاد الإسلامية
وإعانتهم الكفار على ذلك ؟ ...
قلت:
ولذلك كان أئمتنا أفقه من أن يداهنوا المنحرفين عن منهج السلف
بل رأوا جهادهم أكبر الجهادين
كما قال يحيى بن يحيى شيخ البخاري ومسلم ... :
( الذّبُّ عن السُّنّة أفضلُ من الجهاد في سبيل الله
قال محمد: قلتُ ليحيى:
الرجلُ ينفِقُ مالَه ويُتْعِبُ نفسَه ويجاهد، فهذا أفضلُ منه؟!
قال: نعم بكثير! )
وقال الحميدي شيخ البخاري :
( والله ! لأن أغزو هؤلاء الذين يَرُدُّون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
أحبُّ إلي من أن أغزو عِدَّتهم من الأتراك ) يعني بالأتراك: الكفار
وقد وجدتُ مثل هذا عند من هو أعلى طبقةً من الحميدي
قال عاصم بن شُمَيْخ:
فرأيتُ أبا سعيد ـ يعني الخدري ـ بعد ما كبِر ويداه ترتعش يقول:
( قتالهم ـ أي الخوارج ـ أجلّ عندي من قتال عِدَّتهم من الترك )
قلت: ولذلك قال ابن هبيرة في حديث أبي سعيد في قتال الخوارج :
( وفي الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين
والحكمة فيه أن قتالهم حفظ رأس مال الإسلام
وفي قتال أهل الشرك طلب الربح
وحفظ رأس المال أولى )
وقال أبو عبيد القاسم بن سلاّم :
( المتبع للسنة كالقابض على الجمر
وهو اليوم عندي أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله )
وقال ابن القيم :
( والجهاد بالحجة واللسان مقدَّم على الجهاد بالسيف والسنان ).
ــــــــ
استعمال الشدة في الإنكار على المبتدعة
لا يعني الولاء للكفار
... أن الأصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللين والرفق ...
لكن إذا كان المنكر لا يغيَّر إلا بنوع من الخشونة
فلا بأس باستعماله ولو كان مع المسلمين
ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك، وليس فوق القتال خشونة
فقال سبحانه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ }...
بل ربما كان النبي صلى الله عليه وسلم
يُعنِّف العلماء من أصحابه إذا أخطأوا أكثر من غيرهم
وخذ على سبيل المثال
قوله لمعاذ حين أطال الصلاة بالناس: ( أفتّان أنت يا معاذ؟! ) ...
وقال لأسامة بن زيد حين قَتل في المعركة مشركا بعد أن نطق بكلمة التوحيد :
(يا أسامة! أقتلته بعدما قال:لا إله إلا الله ؟! )
قال أسامة : ( فما زال يكررها حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم )
وقد استفاد أسامة من هذا التعنيف في النصح أيام الفتنة
التي كانت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه
فأورثه توَرُّعا عن دماء المسلمين
قال الذهبي رحمه الله :
( انتفع أسامة من يوم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يقول له :
(كيف بلا إله إلا الله يا أسامة ؟! )
( فكفَّ يده، ولزم بيته، فأحسن )
قلت:
الله أكبر! ما أعظم التربية النبوية! وما أحقر التربية الحزبية!
التي مِن يوم أن حرَّمت أصل ( الرد على المخالف )
وأبناؤها لا يتورَّعون عن دماء المسلمين، اتَّخذوها هدرا باسم الجهاد ...
أن الذي يظهر من مجاملات الأحزاب الإسلامية لأهل البدع والسكوت عن أخطائهم
هو أنهم لما حصروا طريق عودة عزّ المسلمين في صندوق الانتخابات
تذمّروا من النقد ، لأنه ربما أتلف لهم الأصوات
وهكذا السيئة تتبعها أخوات.
هذا ومن أجل أن الله فرض علينا قَدَراً وجود المخالف ـ الذي يُحسب على الإسلام ـ
سلكنا طريق التصفية
لأن الله فرض علينا شَرْعاً الرد عليه ...
ومن أجل أن الله كتب الرفعة لأهل العلم والتعليم ...
سلكنا طريق التربية ...
ـــــــــ
الأصل السادس :
التصفية والتربية
... وعلى قاعدة " التصفية والتربية " وإن شئت قل " التخلية والتحلية "
قامت دعوة الإسلام
ففي التوحيد لا يتربى المرء عليه سليما حتى يتخلص من رواسب الشرك ...
وفي التشريع لا يتربَّى المرء عليه سليماً حتى يتخلَّص من البدع
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في كل خطبة جمعة
يأمر بلزوم الدين الصحيح المتمثل في الكتاب والسنة
ويحذّر مما يَغشُّه ويُكَدِّر صفاءه وهو البدع ...
يقول: ( أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد
وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة )
وتكراره لهذه الجملة دليل تأصيلها وشدّ العناية إليها ...
تطبيق:
اجتمع الشيخ محمد ناصر الدين الألباني بعلي بن حاج
القائد الروحي ـ كما يقولون ـ للحزب الجزائري : الجبهة الإسلامية للإنقاذ
وكان الشيخ على دراية دقيقة بحوادثهم، وبلغه أن مؤيِّديهم يُعَدُّون بالملايين
فكان مما سأله عنه ما أُثبتُه هنا اختصارا أن قال له الشيخ:
( أَكُلُّ الذين معك يعرفون أن الله مستوٍ على عرشه ؟ )
وبعد أخذ وردّ، وتهرّب وصدّ، قال المسئول: نرجو ذلك !
قال له الشيخ: ( دَعْك من الجواب السياسي ! )
فأجابه بالنفي
فقال الشيخ: ( يكفيني منك هذا! ) ...
أما تحديد الشيخ سؤاله في مسألة الاستواء
فلأنها مفترق الطرق بين أهل السنة وأصحاب الأهواء ...
حقيقة هذا السؤال هي استخراج حقيقة الدعوات، وتبيّن مدى خلوص النيات
لأن في الاهتمام بالحكم بالشريعة، وفي الاهتمام بمسألة الاستواء اهتماما بحق الله تعالى
لكن بين الأولى والثانية فرق
وهو أن للعبد في الأولى حظًّا لنفسه
وهو ما يتكرر على الألسن من استرجاع المظالم واستيفاء الحقوق، والعيش الرغد
الموعود به حقًّا في قول الله تعالى:
{ولو أنَّ أَهْلَ القُرَى ءَامَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّمَآءِ والأَرْضِ}
أي : أن حظّ العبد خالط حقَّ الرب
وأما الاهتمام بصفة الاستواء لله فهو اهتمام بحق الله الخالص
ليس للداعي إليها أدنى نصيب من حظّ نفسه
فتأمل هذا الفرق تدرك عزّة الإخلاص
لأن الدندنة حول قضية الحكم بما أنزل الله
مع إهمال قضايا صفات الرب الخالصة أو تأخيرها أو تهميشها
ـ وهي أشرف ما أنزله الله إذ شرف العلم بشرف المعلوم ... ـ
لأكبر دليل على أن في الأمر شائبة
تؤكد ضرورة الرجوع إلى دعوة الأنبياء الذين قالوا لقومهم:
{اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}
فقدَّموا الاهتمام بشرك القبور على الاهتمام بشرك القصور ـ إن صح هذا التعبير ـ
لهذا لم تكن الإمامة من أصول الإيمان !
فتدبروا
هذا وأسأل الله تعالى أن يشرح صدر المسلمين عامة ودعاتهم خاصة
لاقتفاء أثر سلفهم الصالح في العمل بهذه الأصول الستة ...
والحمد لله أولاً وآخرًا
ــــــــــ
مدارك النظر في السياسة
بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية
لفضيلة الشيخ عبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري
باختصار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق